موعـــد مــع القصيـــدة*
يحتفي العالم باليوم العالمي للشعر يوم 21 مارس. يوم جعلته المنظمة العالمية للتربية والتكوين يوما عالميا للاحتفاء بالشعر والشعراء، بطلب من بيت الشعر في المغرب، الذي اقترح على المنظمة هذا اليوم للاحتفاء بالقصيدة، حيث هذا الجنس الأدبي يأخذ مكانه، شيئا فشيئا، وسط زخم الحياة اليومية، ووسْط تقدم التقنيات الحديثة. إنه احتفاء بالكلمة الرقيقة، الفياضة بالأحاسيس الجميلة، والذكريات الطيبة، والحاملة لتقلبات المشاعر، والمؤسسة للذاكرة الهائمة في العشق، والسارحة في جغرافية الكون.
في هذا اليوم، يتذكر الإنسان صلته باللغة وصِلته بالذاكرة، التي تؤرخ أمجاده الإنسانية، وصراعاته البطولية، وتؤثث لخيالاته الفكرية، النابعة من أسرار الوجود والوجدان، ليُبرِزَ حضورَ الجمال في الأشياء. وما كان الإنسان ليحتفي باللغة لولا وجود الشعر والشعراء، بهما يحقق الإنسان وجودَه الثقافي، وحضورَه التاريخي، وانعتاقَه من الظلم والطغيان، ليظلَّ الشاعر ذاك النبراس الذي يُرسي قيم الخير ويبدّدُ قيم الظلم والظلام. فيحارب بقصائده من أجل البقاء والعيش في حرية وسلام، ليبعثَ في الإنسانية أملا لن يموت إلا بموت الحياة وانعدام الوجود.
بين يدي هذه اللحظة، تُنظَّم العديد من التظاهرات الثقافية والمهرجانات الشعرية، وتُقرأ، بالمناسبة، العديد من القراءات الشعرية، من لدن شعراء اختاروا الكلمة الهادفة والموزونة لتبليغ تأملاتهم، لمن أحبّوا سماعَ اللغة وأناقةِ كلماتِها، وصفاء الوجدان وجمال الوجود. إنها لحظة استحضار لكل شاعر، عبر التاريخ الشعري، منذ الصرخة الأولى للوجدان الإنساني إلى أحدث صرخة يكتبها الشاعر في زمن ما ومكان ما في العالم. هي مناسبة لتجديد الإقامة في الشعر وربط الصلة بالشعر والحياة مع الشعر.
في هذه اللحظة الشعرية، نستحضر شعراء خطّوا للشعر طريقا، فجعلوا للقصيدة مكانا بين أمكنة الأجناس الأدبية الأخرى، ونقلوا القصيدة من مكانها الجغرافي الضيق إلى مكانتها العالمية الواسعة، لتصبح القصيدةُ سلطةً تمارس حضورَها وانتصاراتِها على الطغيان والاستبداد، وما قصيدة أبو القاسم الشابي، التي يقول فيها:
إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر
إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر
لدليل على انتصار الأمل ورفض اليأس والبؤس. شعراء مجدوا النصر في قصائدهم، ولقنوا الحكمة، وأرّخوا للذاكرة المجتمعية بكلمتهم المدوية في الآفاق، التي أبدعها كبار الشعراء المبدعين، منذ عهد الشعراء الجاهليين إلى عهد الشاعر الراحل محمود درويش، وما بين العهدين قائمة طويلة من الشعراء، أمثال المتنبي وأحمد شوقي وجبران خليل جبران...الخ، الذين كتبوا قصائد تحتفي بالجمال، وتسعى إلى إسعاد الفرد وإخراجه من ضنك الحياة، بتمجيد قيم الحب وترسيخ معاني السِّلم والسلام.
إن اليوم العالمي للشعر، يوم فيه نعيد قراءة الشعر لربط الماضي بالحاضر، وقراءة الماضي الشعري بناء على الحاضر الشعري، لتأسيس وعي شعري مبني على تصورات نظرية تعمل على تأثيث قصيدة تغزو الأمكنة الافتراضية والأمكنة الحقيقية، لإقامة جسر التواصل بين الفرد وبين القصيدة، وإسهاما في خلق تنوع شعري يستجيب لكل المتطلبات الإنسانية القائمة على الإبداع والابتكار.
هي دعوة لقراءة الشعر، وتخصيص حيّز له في انشغالاتنا اليومية، لاكتشاف خباياه والتبحر في مكامن أسراره اللغوية. تقول السيدة إيرينا بوكوفا، المديرة العامة لليونسكو بمناسبة اليوم العالمي للشعر لعام 2010: "يمدّنا التنوع الشعري بطريقة أخرى للحوار، إذ يجعلنا نكتشف أن كافة الناس في جميع أرجاء المعمورة لديهم نفس الشكوك ونفس المشاعر. وهذا أحد مظاهر حريتنا، وهذه طبيعتنا البشرية. و لذلك يجب أن يتبوأ الشعر المكانة التي تليق به في البرامج التعليمية الجيدة. ويسمح تمكين الشباب من الغوص في بحور الشعر العالمية بإعطائهم وسيلة إضافية مختلفة ورقيقة وسلسة للتعرف على الآخر وفهمه بشكل أفضل. فاكتشاف قصيدة جديدة هو التبحر في عالم اللغة، وفي عواطف وأحاسيس الآخر مهما كان بعيدا عنا ".
*كتبت المقال بمناسبة اليوم العالمي للشعر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق