الجمعة، 15 نوفمبر 2013

من إيحاءات اللحظة العابرة


من إيحاءات اللحظة العابرة

1.
ثمة من لا يملك إلا العين الناظرة، التي ترى ظاهر المرء وشكلِه، فهي لا تستطيع الرؤية أكثر من ذلك. يُبهِرها المرئي ويحجُبُها، بل يطمِسُها ويُعميها، فتصير، بذلك، عينًا عمياء. وثمة من يملك العينَ البصيرة، التي تحطم الجدار، فتغزو العمق وتعرّي حقيقة المرء، لتكشفَ الأسرار. عندها، فإما يبدو لها الجمال صفيا نقيًّا، أو يبدو لها القُبح ظاهرًا جليًّا. 

2.
من الناس من يأخذك جمالُ كلامه وعذوبة حديثه، فيأسِرك بلسانه قبل صورته، ويسجُنُك بِحُلو ألفاظه قبل رؤيته. بهذا، ينطمِس بصرك وتصبح مهووسا مجنونا في آن. تنتظر بشغف تلك اللحظة التي تسمع فيها أحلى الكلمات وأرقى التعابير، فيهتز لهما نبضك قبل أوتار سمعك. بالسماع، أحيانا، وبالمكتوب، دائما،  تمتطي فرس عبورك الخيالي، حيث يرفعك من أرض حقيقتك ويخطفك إلى صهوة هوَسِه. في هذا العبور تصفو سريرتُك ويصْدُق كلامُك لينْسُجَ صورةً ألوانها بَلسَمُ وعبير.  

3.
ما بين اللحظة واللحظة عبور متجدد، وانتقال مستمر، وصيرورة حياة منفتحة على المعلوم، حين يتبدى لك بهمسه، واللامعلوم، حين تتجلى صورتُه بين يديك. للهمس نقوشاتُه ووشمُه، لا يكاد يمرّ إلا ويتركُ أثرَه محفورًا فيك. وللكلمات أنسُها وأنيسها، لا تكاد تفارق خطواتك إلا وأنت تشتاق إليها من جديد. ولصاحبها انجذاب وانخطاف، لاتُحس بانجذابه إلا حين تفارق همسَه وجنونه، ولا تشعر بانخطافه إلا حين يلمِسُك فيُمسِكُك، عندها يأسِرُك فيسجُنُك. فأنت بهذا أسير مأسور، حبيس مسجون، فابحث عن خَلاصِك قبل خلاصِ أمرِك.

4.
وحيدًا في حضرة الغياب، بعيدا عن ضيافة المستحيل، تائها في دفاتر الذكرى، وغائبا عن الغياب. ثمة لحظات يكون عبورها كليل المستحيل، حين لا ينكشف صبحه. كلما طال سواده زادت عتمته شدة وحدّة. وللحظة فعلها النابض وبصمتها الغائبة عن النسيان، لاينمحي نبضها ولا تغيب بصمتها ولا يحجبني عنها النسيان.  بذلك يبقى الغياب حاضرًا في عين النسيان.

5.
هناك من لا يقدّر قيمة الأشياء ولا يزنها بموازينها الدقيقة. فهو لايرى جوهرَها، ويجهل ثمنَها، فلا تنكشف له قيمتُها إلا بافتقادها وانحرامه منها. بهذا، لا يعلم أن قيمة المرء في سموّه ورفعته، لا في حسنه وأناقة مظهره. يذبل الجسد وينمحي أثره، فلا يحييه إلا فعلُه الجميل وذكرُه النبيل. فالأولى تجعله حيّا خالدًا، وإن خطف جسدَه شبحُ الموت، فيما الثانية تُميته حيّا، وإن كان في حُسنه ملَكًا. فما يُغني حُسن الجمال إن أفسده سوء الفعل والعمل؟ 

الرباط في  013.11.11